*العولمة ظاهرة كونية أو طفرة حضارية نتجت عن التقدم العلمي والتقني، خاصة في مجالات المعلوماتية والاتصال والإعلام، وكان ذلك يسير بالتوازي مع تطور الإنتاج الاقتصادي ووسائله، وازدهار التجارة وتراكم الأموال،وإنفاق الأموال في مجال البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية في جميع ميادين الحياة، فأصبت التقنية المتطورة إحدى أبرز الخصائص التي يختص بها عصرنا بالمقارنة مع العصور السابقة، تغيرت شبكة العلاقات بين سكان المعمورة، وبين الإنسان وذاته، وبين الإنسان التاريخ والطبيعة والكون، وبين الفرد والمجتمع،رافقت التطور التقني والمادي مفاهيم عديدة جديدة أصبحت متداولة، مفاهيم حول الإنسان والكون والحياة والزمان والمكان والفرد والمجتمع والهوية والسلطة والاقتصاد والسياسة والثقافة والأخلاق والدين والعلم وغيره، ارتبطت العولمة بهذه المفاهيم وبغيرها، وعولمتها جميعا، "عولمة الزمان، كونية المكان، رمزية العمل، عمال المعرفة، وحدة السوق، التجارة الإلكترونية، القيمة المضافة، الطريق السريع للإعلام، الثورة العددية، الطوائف السبرانية، المدينة العالمية، سوق النظر، الميدياء، عولمة الأنا، اختراق الهويات، تداخل الكوني المحلي".[1]ذلك ما ميّز المجتمع الإنساني العالمي في عصر العولمة، وجاءت قراءة ذلك في الخطاب الثقافي والفكري والسياسي والأيديولوجي متعددة ومتباينة، بين الخصوم والأنصار، بين التأييد والقبول والمعارضة والرفض، وصفها "علي حرب" بقوله: "كيف تُستقبل العولمة في الخطاب الثقافي لدى الدعاة والحماة؟ إنها تُقرأ قراءة خلقية مثالية أو قراءة إيديولوجية نضالية، من خلال ثنائية الأنا والآخر، أو الخير والشر، وذلك عبر هوامات الهوية وتهويمات الحرية أو أطياف العدالة والمساواة. هذا ما نجده بنوع خاص لدى المثقفين العرب والفرنسيين الذين يتحدثون عن العولمة والتلفزة بلغة الصدمة والإحباط أو الغضب واللعنة.والقراءة الإيديولوجية هي قراءة وحيدة الجانب تقوم على التبسيط والاختزال، وذلك حيث تُقرأ العولمة بتعابير التمركز والهيمنة، أو السوق والسلعة، أو الاستعمار والرأسمالية، أو الاختراق والاغتصاب، أو الغزو والاكتساح".[2]
*إن قراءات الفكر المعاصر العربي والغربي للعولمة التي تتوزع على نوعين:مؤيدة للعولمة وحامية من جهة، ومعارضة ومناوئة من جهة أخرى، كلها مستمدة مما يتصل بالعولمة وما انبثق عنها في حياة الإنسان من جميع جوانبها، من جانب إيديولوجيا العولمة وأخلاقها وثقافتها وفلسفتها، ومن حيث مجتمع العولمة من كافة نواحيه، العولمة من جانب الفكر والنظر من جهة ومن جانب السلوك والممارسة من جهة ثانية ومن جانب المركب الجامع بين الفكر والممارسة معا من جهة أخرى، كل من القراءتين تستند إلى ما تقوم عليها العولمة في الجوانب الثلاثة المذكورة، وإلى مظاهرها وإفرازاتها وانعكاساتها وتداعياتها على الوجود الإنساني والكوني عامة، إنّ التعارض بين القراءتين، والاختلاف بين الرؤى داخل منظور الدعاة والأنصار أو بين المواقف داخل منظور الخصوم والمعارضين يكس مدى التعقيد في إيديولوجيا العولمة وفلسفتها وواقعها، ويعبر بجلاء عن درجة تناقض وتعارض فلسفة العولمة وخطابها الإيديولوجي وبيانها النظري والسياسي مع ممارساتها في الواقع، والحقيقة تكشف عنها الممارسات التي تصدر عن البلدان العظمى التي تروج للعولمة والنظام العالمي، وهي ممارسات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وغيرها تقوم بها المؤسسات والشركات المدنية والعسكرية التي تنشر العولمة، من خلالها تنتهك حرمة الإنسانية في أخلاقها وعقائدها وثقافاتها وفي حقوقها المدنية والسياسية والاجتماعية عامة.
*ولعل أسوء حال عليه العولمة كونها تنطوي على التناقض المذموم بين ما تقول وما تفعل، فالكذب الإيديولوجي والسياسي يضع الإنسان والحضارة في مأزق التوتر الدائم، المؤدي إلى الانفصام الحضاري والتمزق الاجتماعي والانحلال الأخلاقي والثقافي، والتراجع والضعف والفساد الاقتصادي، والتهور العسكري والحربي، هذا بسبب انتفاء الثقة بين بني البشر، ونماء خوف الجميع من الجميع، لأن الجميع يصبح ضد الجميع، هو الذي ينطبق على شعوب ودول العالم المعاصر، ترفع العولمة ونظامها شعارات سامية منها حماية الحرية عامة وصون الحريات الأساسية الفردية والجماعية في جميع أنحاء العالم، من دون النظر إلى عرق أو لون أو دين أو اتجاه سياسي أو أي انتماء طائفي.نشر الديمقراطية الليبرالية وضمنها التعددية السياسية التي تسمح للجميع من دون تمييز المشاركة الفعالة والإيجابية في السلطة، وفي إدارة دواليب الحكم في الدولة الحديثة والمعاصرة.حماية سائر حقوق الإنسان المدنية والسياسية، حق السكن وحق التعليم وحق العمل وحق حرية المعتقد والتدين والاستطباب والعلاج وحق الانتخاب وغيرها من الحقوق التي لا تستقيم الحياة الكريمة إلاّ بها.نقل العلم والتكنولوجيا إلى مختلف أنحاء العالم، فلكل إنسان الحق في الاستفادة من العلوم المتقدمة والتكنولوجيا المتطورة التي عرفها العصر.المحافظة على البيئة من سائر الأنشطة والإفرازات التي من شأنها تلحق الضرر بالبيئة والأرض وفضائها، مثل التلوث من جراء الأنشطة الصناعية واستعمال منتجات الصناعة في كافة مجلات الحياة مثل النقل والأشغال الكبرى ونشاطات التسلح بمختلف أنواعه. الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل ذات الإفرازات الضارة خلال وبعد إنتاجها وقبل استعمالها. صون كرامة الإنسان وحمايتها من كل ما يخدشها أو يطعن فيها، بالمحافظة على الوجود الإنساني الفردي والاجتماعي من السوء في المعاملة ومن التعدي على حقوقه وانتهاكها. هذه الشعارات مفصلة وغيرها كثير تتضمنها سائر دساتير ومواثيق الهيئات والمنظمات العالمية، السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية والعسكرية الحكومية وغير الحكومية، ومنها هيئة الأمم المتحدة الراعي الأول لإعداد وتطبيق ومتابعة ومراقبة النظام العالمي والعولمة في العالم، ومن وراء هيئة الأمم المتحدة تعمل الدول الكبرى التي تتمتع بحق الفيتو أو حق النقد على تنفيذ العولمة والنظام العالمي من منطلق الشرعية الدولية، وباسم هيئة الأمم المتحدة بجميع فروعها واختصاصاتها، فشعارات العولمة ومبادئها المنصوص عليها تجري بمقتضى ما تمليه دول المركز بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت نتيجة ذلك الأكذوبة السياسية والإيديولوجية المفضوحة والأزمة الأخلاقية، وضحية هذه الأكذوبة والأزمة خُمس سكان الكرة الأرضية، لا يعرفون الراحة ولا يهدأ لهم بال في أتون التخلف والانحطاط، هذا التخلف الذي باركته العولمة وكرّسه النظام العالمي، ولم تسمح العولمة راعية قيم الحداثة والحضارة المعاصرة للآخرين غير أصحابها إلا بحسن الإصغاء والتفرج والعيش على الفتات الحضاري والصوري، وبكل ما من شأنه يعزز تبعيتهم في منتهاها للعولمة والغرب والأمركة.
*إن المبادئ والشعارات التي رفعتها العولمة ونادى بها النظام العالمي في مجملها أخلاقية سامية ومثلى، بحيث عرفها الإنسان منذ القديم واستحسنها العقل، وأيدتها جميع الديانات والشرائع السماوية وغيرها، وقامت عليها سائر النظم والقوانين التي عرفها الإنسان، كما تأسست عليها كافة الحضارات المتعاقبة عبر تاريخ الإنسانية الطويل. فالحرية قيمة إنسانية مرتبطة بأرقي ما يملكه الوجود الإنساني العقل والإرادة، هي شرط حركة التاريخ وبناء المجتمع الإنساني وتشييد الحضارة، تعبث بها العولمة، ويفرض النظام العالمي باسم الشرعية الدولية وفي إطار الأزمة الأخلاقية والتناقض بين خطاب العولمة وسلوك أصحابها وممارساتهم كل أنواع القيود السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها مما نعلم ومما لا نعلم على الدول وشعوبها خارج المركز، الأمر الذي أغرق تلك الشعوب في التخلف والتدهور وأفقدها وسائل وسبل التنمية.أما الديمقراطية الليبرالية والتعددية السياسية نهج ومسار تسجل فيه الشعوب حضورها السياسي والاجتماعي في الدولة، من خلال مشاركة قوية وإيجابية تضمن الأمن والاستقرار والسلم في المجتمع الذي ليس له أن يستمر ويتطور ويزدهر إلاّ بها، الديمقراطية يفرضها دعاة العولمة بالقوة في العالم ناسبت قيم المجتمع أم لم تناسبه، وتجري خارج بلدان المركز بكيفية صورية بحتة لغياب الجو المناسب لتطبيقها، خاصة في بلدان العالم الثالث التي لديها ترسانة متراكمة من الأنظمة الاستبدادية التي تعيش على الانقلابات العسكرية وتوريث الحكم الملكي والجمهوري الرئاسي على السواء، فلا مكان للديمقراطية والتعددية السياسية في هذه البلدان سوى الحديث عنها والتغني بها، وممارستها عن جهل وبكيفية شكلية صرفة، لإيهام الغير بالتمسك بالتوجه الديمقراطي في الداخل للتقليل من ضغط المعارضة والحد من شدة الاحتجاجات، وفي الخارج لنيل رضا الأقوياء وعطفهم ومساعداتهم، وكل ذلك للبقاء مدة أطول في السلطة، لأن الحاكم في هذه البلدان تكون في معظم الحالات نهايته سيئة ووخيمة، كالانقلاب عليه وعزله، أو اغتياله والتخلص منه، أو فراره أو نفيه وذلك أخف الأضرار.
*يكثر الحديث في البلدان المتقدمة والمتخلفة على السواء عن حقوق الإنسان، الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية عامة، وفي سياق أزمة العولمة الأخلاقية داخل المجتمعات الغربية والمجمع الأمريكي نجد في الخطب السياسية في مختلف المناسبات الإشادة والتنويه بالإنجازات المتحققة في ميدان حقوق الإنسان، والتنديد بالممارسات والأوضاع التي تعيشها الشعوب الأخرى وتنتهك فيها هذه الحقوق، والحقيقة أن القوى الكبرى التي تفرض النظام العالمي تكيل بمكيالين، مكيال في حق شعوبها يضمن لها الأمن وظروف العيش الكريم، ومكيال خاص بالشعوب الأخرى يحرمها من حقوقها الأساسية والأولية البيولوجية، يحرمها من الحق في الغذاء والماء والهواء والكساء والإيواء، ليس لها الحق في طلب الحقوق الأخرى المدنية والسياسية التي صارت أولية وأساسية من حيث الأولوية لدى شعوب العالم المتقدم، بينما تعيش الشعوب المتخلفة كل صنوف الحرمان، المجاعة والفقر والجهل والمرض والتشرد وضياع الأطفال والمسنين وغياب أدنى شروط الرعاية الاجتماعية الصحية والتربوية وغيرها.أما بالنسبة لشعار تمكين شعوب العالم من قيم الحداثة العالمية، فلم تر هذه الشعوب في أطراف المركز سوى شكل هذه القيم وظاهرها، ولم تشهد مضامينها ودلالاتها، لأن ظروفها لا تسمح لها بذلك من جهة، ولاحتكارها من منتجيها من جهة أخرى، ويتعلق الأمر بالنسبة لقيم الحداثة والتحديث بالقيم السياسية والعلمية والتقنية والمدنية وغيرها، والأمر نفسه مع نقل العلم والتكنولوجيا، بحيث ترفع العولمة شعار ضرورة استفادة العالم أجمع من منتجات البحوث العلمية والتطبيقات التكنولوجية المتطورة، من منطلق العلم والتقنية ملك الجميع وليسا حكرا على أحد، لكن ما تمارسه شيئا آخر، فالبلدان الكبرى تحتكر لنفسها وبصورة كاملة أي تقدم وازدهار في المجال العلمي أو أي تطور وابتكار في مجال التكنولوجيا، وتقوم بتصدير التكنولوجيا الأضعف والأقدم لمن ترضى عنهم، مع استعمال أساليب ووسائل فيها من الشروط ما يجعلهم دوما في تبعية تكنولوجية لها ولتكنولوجيتها الأقل تطور بالمقارنة مع تكنولوجيتها المتطورة جدا، واستخدام التكنولوجية الغربية من طرف الشعوب التي لا تنتجها ولو بإفراط مثلما هو الحال في دول الخليج العربي، والأمر يعود إلى البترول، فإن الاستخدام المفرط لتقنية الغير لا يجدي نفعا مادامت مستوردة من الخارج، ومادامت تكرس التبعية الاقتصادية والسياسية له، وينتهي استيرادها وتنضب فور نضوب مصدر المال الذي به يُحصل عليها، فالتطور العلمي والتكنولوجي أخلّ بنظام التوازن في العالم من حيث معدل المعيشة والدخل الفردي، فمعدل الدخل الفردي في بلد كالولايات المتحدة الأمريكية يفوق معدل الدخل الفردي في بلد فقير كالصومال أو أثيوبيا بمئات المرات، وصار العالم موزع على قسمين، قسم يملك التكنولوجيا والتنمية والرفاهية وأهله يموتون من السمنة والتخمة، وقسم آخر يحتكر الفقر والحرمان والتخلف وأصحابه يموتون في معارك الجهل والجوع والمرض والحروب المجانية.
*أما عن حماية البيئة من الأخطار، فإن كوكب الأرض بأكمله صار في خطر وليس البيئة فقط، بسبب ظاهرة التلوث التي استفحل شرها مع التزايد المستمر في التصنيع واستعمال المنتجات الصناعية، واستهلاك الطاقة بمختلف أنواعها بأقصى ما يمكن، الأمر الذي أدى ويؤدي إلى تسمم عناصر المجال الحيوي، من هواء وماء وفساد التربة، والاستهلاك المفرط للطاقة، وتسمم البحار، وحرق الغابات رئة البيئة وقلبها النابض بالحياة، وثقب طبقة الأوزون وغيرها من الأضرار التي لحقت بالطبيعة والإنسان، ومما زاد ويزيد الأمر خطورة السباق نحو التسلح بصفة عامة والتسلح النووي بصفة خاصة، التسلح بصفة عامة والفائض في الإنتاج الحربي يُسوق من خلال إشعال حروب إتنية وطائفية مجانية، وفي هذا تبلغ الأزمة الإنسانية الأخلاقية ذروتها، بحيث صارت المتاجرة في الأرواح والأنفس من غير شفقة أو رحمة وفي حالة الموت التام للضمير الإنساني حرفة تدرّ الربح الوفير على أصحابها في عصر العولمة، أين يتغنى الجميع بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، ويضع التسلح النووي وأسلحة الدمار الشامل العالم أجمع والكرة الأرضية في خطر الزوال والدمار في أي وقت من الأوقات يغضب فيه الإنسان ويتهور في حالة حرب أو سلم، فيفجر الأرض تفجيرا نوويا كاملا يؤدي إلى نهاية العالم، ليس كما تصور فوكوياما في أطروحته نهاية التاريخ والإنسان الأخير، بل نهاية العالم والعولمة والنظام العالمي، وزوال عالم القوى المهيمنة بقيادة الولايات المتحدة، لكن الأقوياء ونظرا لما سببوه للعالم وللشعوب في الأطراف من هموم ومشكلات يحتكرون التسلح النووي والأنشطة النووية السلمية، ذلك خوفا من ردة فعل الضعفاء وانتقامهم، وصارت الأمم والدول تراهن على القوة النووية العسكرية والسلمية لفرض وجودها ونيل احترام الآخرين لها لأن عالم العولمة لا يعترف إلا بالأقوياء والأغنياء، في حين أن الطبيعة البشرية الاجتماعية فيها الغنى والفقر والقوة والضعف والربح والخسارة والنجاح والإخفاق والعولمة لا تعترف إلا بالقوة، الأمر الذي جعل الساحة العالمية ساحة للسباق نحو التسلح والتسلح النووي، فأصبح الخوف من الجميع والاستعداد للحرب ضد الجميع، سيطرة قانون الغاب، وتحكم مقولة الفيلسوف الألماني الشهير "سبينوزا" "السمك الصغير له الحق في أن يسبح والسمك الكبير له الحق في أن يأكل"، امتهنت العولمة كرامة الإنسان في عالم الأطراف، وقضت على إنسانيته، فالطبيعة والحيوان ومخلوقات أخرى تنال حقوقها الأساسية والكمالية كاملة غير منقوصة، في الوقت الذي يُحرم آخرون من الحق في الغذاء والحياة، من الحق في التفكير والتعبير، من الحق في الموت بشرف.
*إن الأزمة الأخلاقية التي يعاني منها الإنسان في العالم المعاصر ترتبت عن التناقض بين القول والفعل لدى دعاة العولمة ومنفذيها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية، فممارساتها "تتسم بالأخلاقية والإنسانية، فلا مراعاة لحقوق الإنسان الأساسية: حق الحياة والملكية والتعبير، ولا مراعاة لمصالح الشعوب الضعيف اقتصاديا، ولا مراعاة لتحقيق العدالة وإعطاء الحقوق المغتصبة لأصحابها، ولما كانت هذه هي طبيعة "الحال الواقعة" للعولمة، فهي إذن ليست "عولمة" بمعنى ذا الطابع الأخلاقي والإنساني الذي يروج له خطابها النظري ومن ثم فهو خطاب وهمي تنفيه وتنقضه الممارسات القائمة على أرض الواقع".[3]انتبه الكثير من المفكرين من العرب والغربيين الذين روجوا للعولمة إلى مخاطرها على العالم خاصة العالم المتخلف، وعلى حقوق الإنسان فيه، وأنها شكل من أشكال الاستعمار تفرض هيمنة القوى العظمى على العالم ولا تراعي سوى مصالحها، فهذا أحد المفكرين العرب يصرح بأن العولمة ضرب من الاستعمار بعدما كان يرى بأنها سبيل لتوحيد الجنس البشري تحت راية واحدة هي الكوكبية، لكن منظوره للعولمة تبدل "سرعان ما تبين له من خلال التعمق في قراءة الملامح الراهنة للنظام العالمي المتغير أننا بصدد معارك كبرى إيديولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية من الصعب التنبؤ بنتائجها النهائية لأن المسألة ستتوقف على قدرة نضال الشعوب على مواجهة العملية الكبرى التي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية تحت شعار العولمة لإعادة إنتاج نظام الهيمنة القديم".[4] الأمر الذي جعل بعض المفكرين يربطون العولمة بالزمن ويعتبرونها مجرد مرحلة تاريخية أو حقبة يعرفها العالم وتمضي كغيرها من الحقب التاريخية، على عكس ما ذهب فيه دعاتها من كونها تنتصر على الجميع وتمثل نهاية التاريخ، كما تمثل المدخل إلى ما بعد التاريخ وإلى ما بعد العولمة، فهي "حقبة تاريخية محددة أكثر منها ظاهرة اجتماعية أو إطارا نظريا وهي في نظرهم تبدأ بشكل عام منذ بداية ما عرف بسياسة الوفاق التي سادت في الستينيات بين القطبين المتصارعين في النظام الدولي آنذاك إلى أن انتهى هذا الصراع والذي يرمز له انهيار حائط برلين الشهير ونهاية الحرب الباردة وهذا التعريف يقوم على الزمن باعتباره العنصر الحاسم...فالعولمة في نظر أصحاب هذا الرأي هي المرحلة التي تعقب الحرب الباردة من الناحية التاريخية ومصطلح العولمة مثله مثل مصطلح الحرب الباردة الذي سبقه يؤدي دوره كحد زمني لوصف سياق تحدث فيه الأحداث كأن يقال مثلا أننا نعيش في عصر العولمة لتبرير أو فهم سياسات معينة اقتصادية أو سياسية أو ثقافية...وهي وفق هذا التعريف يمكن اعتبارها حقبة تاريخية بالمعنى الذي سبق أن وصفت به الفاشية باعتبارها حقبة تاريخية أكثر منها نظاما سياسيا".[5]هذا الوصف يُفقد العولمة الشرعية الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والأخلاقية، ويعتبرها مجرد حقبة زمنية تُنعت بما يُنعت به الاستعمار الحديث وجرائمه، وتوصف بما توصف به النازية أو الفاشية أو أي حقبة تاريخية عرفها الإنسان وشهدت أشكال الظلم والعدوان التي مارسها الإنسان ضد أخيه الإنسان، لا لسبب سوى لكونه قويا وفي مركز الغلبة والمنعة والآخر في مركز الضعف والهوان، ورغبة في التسلط وابتغاء الهيمنة.
*إن الأزمات التي أفرزتها العولمة وممارسات الدول ذات الأنظمة الطاغية والمتجبرة التي لا تعير أدنى اهتمام لمكارم الأخلاق ولا للقيم الدينية التي ترعى المصلحة العامة، زادت القوى المهيمنة المتمثلة في الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الذين "سيتشبثون بكل قوة بما حققوه من منجزات علمية وثقافية ومن هيمنة على رأس المال وهيمنة على وسائل الاتصال العظيمة والإشراف المباشر على جميع المؤسسات الدولية ما وصلوا إليه من هيمنة على إدارة الاقتصاد الكوني والتي سيستخدمونها في تحقيق أهدافهم الإستراتيجية في الهيمنة على العالم، وهم مستعدون للدفاع على هذه المكاسب التي حققوها خلال العقود الماضية، بكل الوسائل وهم مستعدون لاستخدام القوة العسكرية وحتى أسلحة الدمار الشامل من أجل الحفاظ على المكانة القيادية التي يتمتعون بها منذ الحرب العالمية الثانية وبنفس الوقت فهم لا يكترثون بقتل ملايين من البشر من أجل الحفاظ على مكاسبهم المادية، هذه هي طبيعة المنظومة الرأسمالية وهذا هو جوهرها".[6]المنظومة الرأسمالية العلمانية المبعدة لكل ما هو مقدس أخلاقي أو ديني، وحتي القيم العلمية والتكنولوجية والاجتماعية في روحها وجوهرها أخلاقية، لأن قيم الحداثة خارج الإيديولوجية الغربية تنفع الجميع وصالحة في الزمان والمكان، أما في سياق الإيديولوجية الغربية والأمريكية فهي صالحة في الغرب الأوربي والأمريكي فقط، وقوى المركز تحتكر قيم الحداثة و"أن أي نظرة موضوعية لطبيعة التناقضات القائمة الاقتصادية والسياسية والحضارية على الساحة الكونية تنبأنا بتفاقم هذه التناقضات بالشكل والكيفية والمستوى الذي يجعل من وقوع حرب كونية وارد في الحسابات، بعد تفهم عميق لطبيعة تكوين النظام الرأسمالي الذي تقوده أمريكا والصهيونية العالمية، خاصة إذا شعرت أمريكا بأن خطر انهيارها أصبح وشيكا وأنّ حل أزماتها لا يمكن أن يتم إلا من خلال تصدير هذه الأزمة إلى خارج حدودها...وبالإضافة إلى ذلك ولكون العولمة لها مخاطر وتحديات ليس على المستوى الاقتصادي فحسب وإنما على المستوى العلمي والثقافي والتقاني والحضاري فهي تحتوي على تحديات شمولية ومعقدة التركيب وانطلاقا من المبادئ القومية والإنسانية تم طرح مشروع إنشاء تجمع مؤسسي يشمل جميع الدول النامية الراغبة في المشاركة بهذا التجمع الاقتصادي الهدف منه هو مواجهة العولمة الأمريكية هذه العولمة التي تحاول غزو العالم بجميع الوسائل حتى العسكرية من أجل تعميم نمط الحياة الأمريكية على الكوكب".[7] فالحاجة إلى التكتل الإقليمي والدولي في العالم المتخلف صارت أكثر من ضرورة، نظرا لما تقوم به الأمركة والصهيونية من ممارسات يندى لها الجبين في فلسطين والعراق وأفغانستان وفي غيرها من مناطق العالم، سواء في انتهاك حقوق الإنسان المدنية والسياسية وعلى حق الحياة بالذات، أو نهب ثرواته واستغلال طاقاته إلى أبعد الحدود.
*إنّ الأخلاق التي يركز عليها النظام العالمي وتستند إليها العولمة كما أرادتها الأمركة الصهيونية تنبذ الآخر الذي لا يملك التقدم العلمي والتكنولوجي الذي جعل العالم المتقدم بقيادة أمريكا على ما هو عليه، مثل الشعوب الغابرة التي عرفت حضارات راقية نمت وازدهرت ثم توقفت وانتهى أمرها، مثل الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية والحضارة الإسلامية وغيرها، وهي حضارات- كما هو ثابت في التاريخ-قامت على العالمية ومن منطلق الأخذ والعطاء والتبادل الثقافي والعلمي، لا من منطلق الهيمنة وسحق الآخر ثقافيا اقتصاديا وعسكريا، لا لسبب سوى لكونه ضعيفا ولرغبة القوي في التسلط وممارسة القهر، إنّ النظام العالمي "نظام معاد للإنسان.إن دعوة النظام العالمي الجديد لنشر الديمقراطية في أرجاء العالم لا تهدف إلى تمكين الجماهير من التحكم في مصيرها وإنما هي أداته في فتح الحدود وإضعاف الدول القومية، حتى يتسنى له ترشيد البشر.ولكن هذه الدعوة كانت لا تزال ليخفي بها مخططات بسط السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ثرواتها. ومن جهة أخرى، تصور الديمقراطية التي تسوق لها أمريكا من سوق حرة، تصور "دينا" جديدا لا يمكن للإنسان أن يجد حقوقه خارجها...فالغرب يصفنا بالتخلف فيما هو يريد لنا أن نبقى كذلك، أو يتهمنا بالإرهاب ولكنه لا يحملنا إلا على ممارسته.إنه يخلق مجتمعات غير متكافئة، يقصد من خلالها الطرف الأقوى إخضاع الآخر إلى تبعية اقتصادية وسياسية وعلمية وفكرية وثقافية، ويحوله إلى موضوع حمّال لكل مظاهر النقص والقصور والتخلف، وبذلك يمهد لتبعية لا محدودة".[8]إنّه النظام الذي يشل الشعوب عن التنمية لفرض التبعية، ويزرع فيها الخذلان والعجز عن استعمال إمكانياتها الذاتية والموضوعية، من منطلق إيديولوجي سفيه يجردها تماما من النضج الحضاري ويتهمها بالشر والإرهاب، ويربطها بالطبيعة البدائية المتوحشة، ويطبق عليها قانون الغاب ويضربها بقوةفي حالة العصيان والتمرد، إن الإرهاب الذي ينسبه النظام العالمي للشعوب المستضعفة في العالم الثالث والعالم العربي والإسلامي بصفة خاصة "قد مارسه الغرب على نحو أكثر فظاعة كما تشهد موجات الإبادة الجماعية ضد السكان الأصليين "الهنود"، والحروب العالمية. صحيح أن الغرب ينظر إلى نفسه بوصفه أقوى لأقوياء الغاب أو بوصفه مصدر المعرفة ونموذج الحضارة، فيما هو يعاملنا بوصفنا مجرد مستهلكين لسلعه وأدواته.وبذلك يخفي الوجه الآخر لحقيقته:كونه يمارس الإرهاب بتهديداته وحروبه وتدخلاته ومفاضلاته العنصرية، وكونه قد حقق تقدمه وإنجازاته، بقدر ما استخدمنا أو احتاج إلينا كأسواق".[9] لا يتمتع النظام العالمي بالمصداقية، لا في عقلانيته ولا في واقعه وممارسات القائمين عليه، فطلب الديمقراطية وباقي حقوق الإنسان والتطلع إلى السلام العالمي لا يكون بالقوة العسكرية، بقدر ما يكون بقوة الانفتاح والحوار والتعاون بين الشعوب،أما واقع الحال يكشف عن الإفراط في استعمال القوة العسكرية ضد الشعوب والحركات المناهضة لتوجه العولمة والأمركة والصهيونية، ولصالح الأمن والسلام في دولة الولايات المتحدة الأمريكية في الدول المتحالفة معها، وفي غياب تام للاعتبارات الأخلاقية والدينية والعلمية، الأهم في الأمر بقاء الولايات المتحدة على قمّة هرم العالم تفعل فيه ما تشاء وكيفما تشاء وساعة تشاء من دون حسيب أو رقيب.
*إذا كان في الغرب من المفكرين أمثال "فوكوياما" و"هانتنغتون" و"مينك" وغيرهم ممن صفقوا للعولمة، ورقصوا للنظام العالمي، وصاغوا البيان النظري والسياسي للكوكبية والأمركة المتصهينة، فإنّ الغرب لم ينجب مثل هؤلاء فقط، بل أنجب الكثير من المعتدلين والموضوعيين من أهل الحق والخير والجمال وخصوم قهر العولمة وظلم وعدوان النظام العالمي، مثلما هو الحال في العالم الإسلامي وفي غيره نجد فقهاء الرحمان وأتباعهم في مواجهة فقهاء السلطان وأزلامه، والمفكر الغربي المسلم "روجيه غارودي" أو"رجاء" واحد ممن وقفوا في وجه تيار العولمة الجارف بالتحليل النقدي الفاحص والنظرة الموضوعية العميقة في كتابه "كيف نصنع المستقبل"، فيكشف عن خيوط أزمة العولمة وعن جذورها وهي جذور أخلاقية وعقائدية وليست اقتصادية أو سياسية كما يعتقد البعض، إن الهيمنة الغربية والأمريكية اقتصاديا وسياسيا وثقافيا وإعلاميا وعسكريا لها صور سلبية بشعة، تدل على ضعف وانحطاط الحضارة المعاصرة روحيا وأخلاقيا- على الرغم من تطورها علميا وماديا وتكنولوجيا- وعلى مصيرها الأسود المظلم، وعلامات انحطاطها عند "روجيه غارودي" وعلى حد قوله: "أن رأس المال الذي تمّ تجميعه خلال خمسة قرون بالنهب الاستعماري والمحدود بعد ذلك بالاستثمارات في البلاد الصناعية الكبرى في أوربا العجوز والذي يخلق حاجات اصطناعية ومؤذية عبر الإعلان والتسويق، رأس المال هذا الذي أصوله بالاستثمار في مؤسسات الإنتاج والخدمات الواقعية. أصبح رأسمال مضاربة أي أصبح طفيليا خالصا. النقود لم تعد تخلق السلع ولكن تخلق النقود. أنّ اعمل الخلاّق لم يعد يفيد في تنمية الإنسان(أي كل البشر)ولكن في تضخيم فقاعة مالية لأقلية ضئيلة ليس لها من الغاية سوى تكبير هذه الفقاعة وبذلك لم تعد مشكلات معنى العمل والإبداع والحياة تطرح للبحث.أن معنى الكلمات نفسه قد تشوّه فنستمر في أن نطلق كلمة "تقدم" على انحراف أعمى يؤدي إلى تدمير الإنسان والطبيعة ونطلق كلمة "ديمقراطية"على أشنع قطيعة عرفها بين من يملكون ومن لا يملكون ونطلق كلمة "حرية"على نظام يسمح بذريعة التبادل وحرية السوق لأولئك الأكثر قوة أن يفرضوا الديكتاتورية عديمة الإنسانية تلك التي تسمح بابتلاع الضعفاء ونطلق كلمة "عولمة"لا على حركة تؤدي إلى وحدة متآلفة الأنغام للعالم عن طريف اشتراك كل الثقافات ولكن بالعكس على انقسام يتنامى بين الشمال والجنوب نابع من وحدة امبريالية وطبقية..ونطلق كلمة "تنمية" على نمو اقتصادي بلا غاية ينتج بإيقاع متسارع أي شيء سواء كان مفيدا أو غير مفيد مؤذيا أو حتى مميتا كالأسلحة وليس تنمية الإمكانيات البشرية الخلاقة".[10] وفي معرض تحليله ونقده للنظام العالمي الذي يفتقد تماما لأي مشروعية أخلاقية ويتجه في اتجاه واحد لا غير حسب "روجيه غارودي" "هو حماية السوق الأمريكية وفتح أسواق العالم كلها أمامها..خالقة بذلك مجالا مشوها مكونا من بعض مئات المختارين ومليارات المستعبدين وبين الاثنين كتلة بلا قوام من أولئك المحكوم عليهم بعمل يفتقر إلى المعنى كي يحصلوا عبر زيادة كمية الاستهلاك على سعادة السوبر ماركت كبديل لحياة حقيقية.حياة منذ الآن فصاعدا بلا هدف".[11]أمام هذه الأزمة الأخلاقية العميقة التي ترتبت عن توجهات العولمة والأمركة والصهيونية العالمية، وعن الممارسات أللأخلاقية من قبل الأقوياء ضد المقهورين في العالم، يكشف "جارودي"عن منفذ النجدة ومخرج الطوارئ وسبيل تخطي الأزمة، وهو "إعادة تأسيس النظم السياسية والتعليمية والاقتصادية والدولية لتكون في مصلحة الإنسان كإنسان بصرف النظر عن لونه أو ثقافته المحلية أو دينه الخاص أو مقدار ثرائه أو انتمائه العرقي. وبالطبع فهي رؤية يوتوبية جديدة لعالم يمكن أن يولد غدا أو بعد قرن أو بعد قرون لكن السؤال الذي ألح علي طوال قراءتي للكتاب الذي هو موجه بالأساس للإنسان الغربي: أيمكن أن يثق "غارودي" في أن هذا الإنسان الغربي الذي قاد ولا يزال يقود العالم إلى المزيد من الدمار والظلم هو الذي يقود هذا التحول اليوتوبي".[12]
*يفرض السؤال-الذي طرحه المفكر علي حرب سابقا- نفسه وغيره من الأسئلة في العالم العربي الراهن بعد الثورات التي شهدها ويشهدها، وأمام العولمة المضادة للثورات الشعبية وأمام التدخلات الأجنبية، هل يمكن لمن صنع الاستبداد والتبعية والعمالة والخيانة والتنكر لقيم الوطن والأمة والإنسانية العليا أن يقود في أمان واطمئنان الثورة نحو النجاح وفي اتجاه أهدافها المنصبة على التغيير وقلب الأوضاع صوب الحرية والديمقراطية والعدالة والأمن والاستقرار والرفاه المادي والحياة الكريمة للجميع؟، وما الذي يضمن بأن الثورات العربية الراهنة في جو العولمة والعولمة المضادة للثورات الجارية ستنتج قوى استبدادية وأنظمة شمولية تُفقد الثورة تماما كل قيم وأهداف الثورة بالمعنى المعهود؟،وهل يمكن للقوى الثورية في العالم العربي الراهن أن تثق في القوى والأنظمة المُثار عليها، وأن تثق في القوى الأجنبية وفي العولمة بأنها تساعد الثورة لعنفوانها أو لجمال معانيها وقيمها وأهدافها أو لوجه الله لا غير؟.
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق